ذات مرة زارني الفضول على غير عادة .. اقتحم ذلك المكان المظلم في قاع رأسي لم يكن يريد المكوث والأستقرار كان ضيفاً ثقيلاً ربما للكثيرين أما بالنسبة لي فهو من أهل البيت .
أخذ يعصف في تلك الغرف العتيقة المظلمة والشديدة البرودة ..عندها وبدون سابق إنذار رفعت رأسي عالياً وأشحت بنظري الى البعيد .. البعيد الى تلك السماء السابعة الذائعة الصيت حيث يقطنها هناك وحيداً كبير الجبابرة كما يحلو له أن ندعوه ..
كان هناك قابعاً بخمول في كهفه البائس المظلم وحيداً مهملاً .. حتى الذباب لم يكن يتحرش به .؟!؟.
فجأه.. أحس بأن هنالك من يتفرس النظر إليه إنتفض غاضباً واقفاً عندها تهاوت وتساقطت من على أكتافه وضفائره غبار الماضي السحيق وربما المستقبل القادم البعيد ..
صرخ بي محدقاً بنظرة إحتقار وقال : الى ما تنظر أيها البائس المتعفن ..!!
كيف تتجرأ على القيام بهذا الإثم العظيم الخطير من دون أن يؤذن لك .. يال مصيرك المزري أيها الحشرة الحقيرة المتعفنة .
عندها إستجمعت جرأتي ونظرت في وجه ذلك الكائن المتحجر القلب وقلت له :
اسمع يا هذا لا تعتقد بأنك بهذه الحركات والتصرفات سترهبني فهذا لم يعد ينفع معي .. ربما كنت تتلذذ في الماضي بإشباع رغباتك الغرائزية الصبيانية الجامحة في مراقبتنا ورؤيتنا ونحن نقاسي ونعاني صنوف العذاب والألم ومع ذلك لم تكن تحرك ساكناً ..ببرودتك وبلادتك التي لطالما إعتدناها نحن البشر بل لأنك لا تجرأ على التدخل وإظهار نفسك أمامنا حتى لا نرى العار الذي يكلل وجهك البارد .
تلك الأيام قد ولّت الى غير رجعة فأنت شيء مجبول بالخجل والضعف والإنطواء .
زمجر وكزّ على أسنانه وقال والنار تقدح من عينيه وأذنيه : لقد حكمت على نفسك بالهلاك والتعذيب أيها العفن الصغير ستتمنى الموت ألف مرة قبل أن تدرك ما أقترفته يداك الآثمتين .
رمقته مرة أخرى بنظرة باردة وقلت : هل تعلم إني أشفق على حالك يا هذا أنت لا تجيد إلا لغة التهديد والوعيد لكل من يخالفك الرأي .؟؟ هل زرت مرة عيادة طبيب نفسي أو حتى مرشد إجتماعي ....
هل عانيت من الجوع والألم والفقر والبرد والإضطهاد والظلم والأنتظار الطويل والقمع والإقصاء بكل أشكاله وألوانه ..
هل أحسست بوجع وفجع الأمهات الثكالى على فقد أولادهن .. أعتقد أنك لم ولن تعرف هذا الطعم ما حييت !!
لأنك تعلمت الأنانية والعزلة المقيتة والوحدة الصامتة الكئيبة فأصبحت كالوحوش الضواري في أقاصي الغابات المظلمة والتي تحجرت قلوبها ولم تعد ترى إلا شخصك المريض الموحش ..
إني أشفق على حالك فأنت هو البائس .. نحن البشر على الرغم من كل الأهوال والمآسي والمصاعب التي عرضتنا لها كنوع من الأختبار المجنون .!وألقيت في دروبنا كل المخاطر والفظائع إلا أننا نسعى الى تجاوزها بكل حب وتعاون مع بعضنا البعض ..
هناك من يسأل عنا في كل لحظة ربما بالكلمة او السؤال أو الهاتف أو حتى البريد او أي وسيلة أخرى أما أنت فلا أحد يسأل عن أحوالك لأنهم لم يعودوا يثقو بك .. ومنهم من فقد الثقة بوجودك أصلاً ولا تتوهم بأن كل تلك الدعاوات والهلوسات والطقوس التي يمارسها البعض عن جهل أو خوف أو تقليد أعمى هي نوع من السؤال عن أحوالك او الإهتمام بك ..؟؟ فإنك لعلى خطأ عظيم ...!!!
لأن هذه العلاقة ولدت مشوهة معاقة وليدة الحاجة . لم تبنى على الثقة أو الصراحة والمحبة بل على الخوف من المجهول وربما القمع والتضليل والتدليس والترهيب تارة والترغيب تارة أخرى .
إني أشفق على حالك يا هذا تعتقد بغرورك أنك على علم بكل شيء ولكن كن على ثقة بأنك مخطىء تماماً ومعلوماتك او ثقافتك إذا جاز لنا أن نسميها هكذا هي ثقافة نظرية مجردة بعيدة عن الواقع والتجربة فالذي لم يعش ويعارك ويعاني ويتفاعل مع الحياة والواقع بكل ظروفه وأهواله وأحلامه لن يعرف ... طعم الحب والحنان ..والشوق ..البغض والخوف.. وطعم التحدي والفوز وحتى الخسارة .
كل تلك المشاعر والأحاسيس بكافة متناقضاتها ومتغيراتها .. إنها نحن فهي تعبر عنا وعن أحلامنا وفشلنا ونجاحنا .. غضبنا وفرحنا من بعضنا البعض او من هذا الواقع المفرح المبكي ولكن بالمحصلة فلنا شرف المحاولة أما أنت فلم ولن تمتلك الجرأة يوماً لتتفاعل معنا في الماضي أو الحاضر .. أو حتى في المستقبل ...
ما أتعس وجودك وأبرده بدون حب .. !! أو أمل أو مستقبل أين هي أحلامك وأهدافك وخططتك المستقبلية للغد ..؟؟
فشلك .. نشوتك بالفوز .. حساباتك .. عشقك الأول ..؟! قبلتك الأولى ..!!
كله غير موجود ولن يكون موجوداً في يوماً ما لأنك وبكل بساطة لا تتقن فن التواضع والعيش وحب الحياة والبشر .. وخذها مني نصيحة أخيرة .
تواضع قليلاً .. أترك عرشك البائس المقفر وملائكتك التعساء الفاشلين .. إنطلق الى الحياة تفاعل معها عِش مغامراتك العاطفية .. مارس هواياتك التي تتقنها ( طبعاً إن وجدت ) تعلم من البشر ..!! فهم صانعوا الحضارات والتراث والتاريخ والمستقبل لنا ولأولادنا .. ليكن لك مستقبل وأحلام وأهداف ..
يكفيك شرف المحاولة ولتترك ألعابك الصبيانية تلك في مراقبتنا والتجسس علينا كاللصوص والمخبرين وحتى محاسبتنا .. قبل أن يفوتك القطار وبعدها تعود وحيداً الى معتزلك المظلم البارد المزري ..
..!!؟؟ .. بانت علامات الحيرة والدهشة والإضطراب على وجهه وأحس بأن رأسه يعصف بآلاف الأسئلة والخواطر الجديدة والغير مألوفة وكأنه لم يعد يدري ماذا يفعل أو يقول .. بدا هائماً على وجهه وكأنه أكل للتو من شجرة المعرفة فتفتحت عيناه على الحقيقة الضائعة لأول مرة في تاريخه العتيق ..!!
فجأة أنتفض واقفاً وإستدار .. أدار ظهره عني وهب عائداً الى كهفه البارد المظلم الموحش .. الذي لا يجيد شيء سوى التواري والإضطجاع بين جدرانه الباردة الموحشة .. عاد كما آتى وحيداً منعزلاً .. رأيته وقتها مهزوماً الى حين ...!!!
ومنذ ذلك الحين لم أعد أسمع عنه أي خبر حتى هذه اللحظة ....؟؟!!..
بقلم المحامي : إيهاب ابراهيم - www.facebook.com/ihab.ibrahem.54
www.twitter.com/ihab_1975
e.mail:ihab_1975@hotmail.com
gmail:ihabibrahem1975@gmail.com