الخميس، 28 أغسطس 2014

التوقيف الإحتياطي .. ولكن !!

من المعروف للقاصي والداني بأن الحرية أثمن ما في الوجود ويتجلى الأحساس بها بشكل واضح عندما تقيد ظلماً لسبب من الأسباب وخاصة عندما يكون ذلك بأمر السلطة العليا في البلاد .

ولكن المؤلم في الأمر هو عندما يكون الشخص بريئاً ويتم إتهامه بشكل تعسفي بناءاً على افتراء أو عطف جرمي من أحد المتهمين فنراه يساق عن طريق رجال الشرطة الى القضاء ويتم توقيفه وهنا تبدأ الرحلة الحقيقية في المعاناة فالشخص المتهم يتم توقيفه الى آجل غير مسمى ومن دون أدنى ضمانات قانونية لا لشيء وإنما لان ثقافة المجتمع أو السلطة القائمة على المجتمع درجت على عادة التوقيف وكأنه اصبح القاعدة والإستثناء هو الترك والحرية .

فالتوقيف الإحتياطي على ما عرفه الفقهاء من خلال اسمه هو وضع الشخص المدعى عليه في أحد أماكن التوقيف على ما نصت عليه المادة (432 )     من قانون أصول المحاكمات الجزائية السوري طيلة مدة التحقيق معه أو خلال فترة منه بموجب قرار يصدر عن قاض التحقيق أو القاضي الجزائي الذي يضع يده على ملف الدعوى .

ولكن في المقابل قد يستمر توقيف المتهم الموقوف الى أن يصدر حكم مبرم في ملف الدعوى وللأسف هذا ما يحصل على أرض الواقع وفي أروقة المحاكم مع أن غاية المشرع من وراء التوقيف الإحتياطي هو أن يكون مؤقتاً ومحدداً لأنه تدبير وقائي وإحترازي الغاية منه تسهيل التحقيق وجمع وصيانة الأدلة وتهدئة الخواطر ومنع المدعى عليه المتهم من التأثير على الأخرين من شهود أو مدعي .. الى آخر ذلك من حجج لكن للأسف كما قلنا فقد تحول عن الغاية المعدة له وأصبح التوقيف عقوبة بحد ذاتها قد تصل مدتها الى سنين وخاصة في الجنايات .

لقد نصت معظم دساتير العالم ومنها الدستور السوري على أن الاصل هو حرية الانسان وأنه لا يجوز حجز حريته إلا في حدود ضيقة ووفقاً للقانون وحيث إن مبدأ الحرية قد جرى تكريسه في العديد من المناسبات للتأكيد والدلاله على أهمية الحرية المرتبطة بشخص الانسان فنرى الثورة الفرنسية في عام 1789 وضعت المبدأ التالي (لا يتهم أحد ولا يوقف ولا يحبس إلا في الحالات المحددة بالقانون والاشكال التي نص عليها )
وأيضاً المادة 11 فقرة1 من الإعلان العالمي لحقوق الأنسان عام 1948 والذي نصت على أن (كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً الى أن يثبت إدانته قانوناً)

لكن الإشكالية تكمن دائماً في التطبيق العملي وخاصة عند البحث والأستقصاء عن الجرائم والمخالفات المرتكبة بحق المجتمع والافراد وهنا تظهر إشكالية التوقيف الإحتياطي فمن جهة هو ضرورة قانونية وواقعية للحفاظ على أمن المجتمع من عبث المجرم وحفظ وصيانة الأدلة وتأمين سلامة التحقيق ولكن في المقلب الآخر هو خرق لقاعدة دستورية تنص على أن الأنسان بريء حتى يدان بحكم قضائي مبرم وبذلك نكون أمام إشكالية حقيقية ألا وهي أن مبدأ التوقيف بحد ذاته متعارض مع المبادىء الدستورية والإعلان العالمي لحقوق الانسان .

وحيث إن منظمة العفو الدولية عرّفت التوقيف الإحتياطي بأنه (تجريد المرء من حريته لسبب لا يتصل بصدور حكم بالإدانة) وبدراسة متأنية لتشريعنا السوري الجزائي نلاحظ العديد من الثغرات والخروقات التي تعارض مبادىء صون الحرية المكرسة في الدستور على رغم ضعفها وعدم فعاليتها نذكر منها :
نص المادة \17\ من قانون أصول المحاكمات الجزائية المعدل بالمرسوم التشريعي رقم \55\ لعام 2011 الذي أعطى الحق للنيابة العامة ورجال الضابطة العدلية بحجز حرية الشخص لمدة قد تصل الى ستون يوماً وذلك بغرض التوسع بالتحقيق وهذا خرق واضح لأن النيابة العامة هي خصم بوصفها تمثل الدولة والإدعاء العام وبالتالي فلا يجوز أن تعطى سلطة توقيف الاشخاص والتعدي على صلاحيات القضاء الأصيل .؟؟

ومن الأمور الاخرى المعمول بها في محاكمنا وقضائنا هو عدم تسبيب القرارات التي تصدر بتوقيف شخص ما إحتياطياً وحجز حريته أي ذكر الأسباب والموجبات القانونية التي دفعت القاضي الى إصدار أمر بتوقيف شخص بعد استجوابه أصولاً فهذا غير معمول به في نظامنا القضائي ويعتبر ثغرة حقيقية تصيب جبين العدالة بالعار ..
ونصل الى النقطة الجوهرية في قضيتنا ألا وهي مدة التوقيف الإحتياطي ولأن التوقيف جاء إستثناءاً من القاعدة التي تقول أن المتهم بريء حتى تثبت إدنته بحكم مبرم لذا يجب أن يكون هذا الإستثناء في أضيق نطاق حتى لا تتعرض حقوق الناس وحرياتهم وكراماتهم للإهانة عبر مزاجية القضاء أو كيدية الشكوى المقدمة من المدعي وهذا ما نلاحطة في معظم الشكاوى المقدمة الى القضاء والتي تشغله وتعرقل مسيرة عمله وتطوره .

وللتوفيق بين القاعدة العامة (المتهم بريء حتى تثبت إدانته) وبين الإستثناء (لا يجوز تحري أحد أو توقيفه إلا وفقاً للقانون) كان حرياً على المشرع السوري أن يضع حداً لمدة التوقيف الإحتياطي بينما الملاحظ أن التشريع السوري بدستوره الحالي أو السابق ترك للقانون والقضاء صلاحية مطلقة في مسألة التوقيف فنصوص قانون أصول المحاكمات الجزائية الصادر بتاريخ 1950 لا نجد فيه أي تحديد لمدة التوقيف بخلاف ما كان معمولاً به سابقاً في التشريعات السابقة .

والملاحظ أن العديد من تشريعات الدول العربية والغربية عمدت الى وضع حد أقصى لمدة التوقيف عبر نصوص واضحة وذلك حتى لا يفقد التوقيف الإحتياطي غايته ويتحول الى عقوبة وإنتقام من الشخص الموقوف الذي قد يكون بريئاً وهذا ما لمسناه في العديد من القضايا التي تصدر في نهاية الأمر بالبراءة رغم مضي مدة طويلة على توقيف صاحبها بدون وجه حق وكان حرياً بالمشرع السوري ونحن في القرن الواحد والعشرين أن ينحى منحى الدول المتقدمة ..!!

وعن مسألة التوقيف الإحتياطي تبرز لنا إشكالية من نوع آخر وهي مسألة التعويض عن التوقيف الإحتياطي الغير مبرر وهنا يبرز رأيين أو إتجاهين الأول ينادي بصيانة القضاء والحفاظ على عمله واستقلاله وذلك عن طريق عدم مساءلة القضاء أو القاضي الذي يخطأ في توقيف شخص ما إحتياطياً ولفترة قد تصل الى سنة او أكثر ومن ثم يصدر قرار ببراءته فالبراءة وبالرغم من وقعها الجميل على المتهم واسرته إلا انها لا تمحي الآثر النفسي والإجتماعي للمتهم الموقوف وأسرته ومحيطه الإجتماعي ومبرر هذا الرأي أن وضع القضاء تحت المساءلة له آثر سلبي على عمل القضاة وكفاءتهم .

ولكن في المقلب الآخر أصحاب الرأي المخالف ينددون بتلك الحجج الواهية ويصرون على المطالبة بمسؤولية الدولة عن أعمال سلطتها القضائية وخاصة لدى إمتهانها حرية الأنسان وكرامته بطريقة غير مبررة أو معللة بشكل قانوني سليم .
وقد ورد هذا المبدأ في العديد من بنود ونصوص وتوجيهات المنظمات الدولية والتي تنادي بحماية حقوق الإنسان للتأكيد على مبدأ مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة القضائية نذكر منها على سبيل المثال :

التوصية السابعة لمؤتمر هامبورغ لعام 1953 (من المرغوب فيه تقرير مسؤولية القاضي شخصياً بدلاً من الإختصار على تحديد أحوال إستثنائية معينة لمسؤولية القاضي )
المادة \5\ من الإتفاقية الاوروبية لحقوق الإنسان لعام 1950 (كل شخص ضحية قبض أو توقيف غير مشروع له حق التعويض )وقد كان لهذه التوصيات الأثر الكبير الذي دعى معظم الدول لأن تشّرع في دساتيرها مبدأ حق التعويض للشخص المتضرر من توقيف إحتياطي لتصبح بذلك الحرية مصانة فعلاً لا قولاً أو حبراً على ورق ونذكر منها على سبيل المثال :
المادة 40 من الدستور الياباني (إن لكل شخص الحق في مطالبة الدولة بالتعويض عن القبض عليه أو حبسه أذا صدر حكم يقضي ببراءته من ذلك وفقاً للقانون )

وأيضاً مثلها المادة 31 من الدستور التركي (تعوض الدولة جميع الأضرار التي يصاب بها الأشخاص الذين يعاملون معاملة تخالف أسس القبض والتوقيف الإحتياطي المنصوص عليها في هذه المادة أو في القانون ..)
لكن في المقابل نرى معظم التشريعات العربية تكاد تخلو دساتيرها من هكذا مبدأ وحتى الدستور السوري الحالي والسابق يخلو من أي إشارة الى مساءلة السلطة وتعويضها على المتضرر في حال إرتكابها لخطأ بحقه..
ولكن الغريب والمثير في الامر أنه في دستور سوريا الأسبق لعام 1963 وتحديداً المادة 10 فقرة 11 نلاحظ وجود نص واضح يقضي بمسؤولية الدولة تجاه الأفراد حيث يقول (لكل شخص الحق في مطالبة الدولة بالتعويض عن القبض عليه أو حبسه اذا صدر حكم يقضي ببراءته منه وذلك وفقاً لأحكام القانون )والغريب إختفاء هكذا نص في الدساتير اللاحقة والمتعاقبة وصولاً الى الدستور الحالي مع أن المنطق البديهي للأمور يقضي بأن التطور المعرفي والفكري والثقافي يجب أن يكون بإتجاه واحد الى الامام لتكريس حماية أوسع لحقوق الافراد وحرياتهم .

لذلك فأنا أقترح عدة نقاط لربما تساهم في ترسيخ أرضية أوسع في الحفاظ على حريات الناس وحقوقهم وبالمقابل تحافظ على هيبة القضاء ورفع سوية أداءه في تطبيق العدالة وتحد قدر الإمكان من الظلم والقهر الذي يطال العديد من الأبرياء ومنها على سبيل المثال لا الحصر :

1-وضع نص قانوني واضح في قانون أصول المحاكمات الجزائية يحدد بصراحة لا لبس فيها الحد الادنى والاعلى لمدة التوقيف الإحتياطي في مختلف أنواع الجنح والجنايات وبشكل تفصيلي يتناسب مع طبيعة كل جرم حتى لا تبقى هذه المسألة خاضعة لمزاجية القضاء رغم ما يبذلونه من جهود يشكرون عليها

2-تضمين الدستور الحالي أو القادم نصاً واضحاً يتيح لكل شخص حق مقاضاة الدولة الراعية للمؤسسة القضائية ومطالبتها بالتعويض عما أصابه من ضرر مادي ومعنوي وأدبي نتيجة توقيفه بغير حق سواء عن طريق القضاء أو الشرطة أو المؤسسات الأمنية

3-ضرورة التأكيد على جميع العاملين في المؤسسة القضائية من قضاة حكم وتحقيق بإلتزامهم بمبدأ تعليل وتسبيب الأحكام المتعلقة بالتوقيف وحجز الحرية حتى يكون قرار التوقيف صادراً بالشكل القانوني السليم وفي أضيق نطاق وبالتالي إطلاق سراح الموقوف فوراً في حال زوال سبب التوقيف أو علته

4-إعادة النظر بالمرسوم التشريعي رقم (55)لعام 2011 والمعدِل لنص المادة (17) من قانون اصول المحاكمات الجزائية والتي تقضي بأن للنيابة العامة حق توقيف أي شخص ما لمدة تصل الى ستون يوماً وذلك على الشبهة وضرورة تقديمه للقضاء المختص فوراً لإستجوابه وتحري أمره لربما يكون الشخص بريئاً والتشديد على ضرورة حصر صلاحية توقيف الافراد من قبل قضاة التحقيق والحكم لانهم في النهاية بمثابة الحكم الحيادي بينما قضاة النيابة فهم خصم لأنهم يمثلون سلطة الإدعاء العام فلا يجوز أن يكون طرفاً ما حكماً وخصماً (مدعياً)بآن معاً فهذا لا يستقيم مع مبادىء العدالة والإنسانية وروح القانون .

وفي الختام لا بد من القول إن حرية المجتمعات والتي هي إنعكاس لحرية الأفراد كانت نتيجة لنضال طويل وشاق ودامٍ دفعت الشعوب الكثير من دماءها وتضحياتها للوصول الى مراحل متقدمة من الإنسانية والمدنية وإقرار مبادىء حقوق الإنسان لذلك علينا عبر تشريعاتنا الوضعية المحلية الحفاظ على هذا الإرث الإنساني الكبير وصيانة مبدأ الحرية لأنها في المحصلة مقياس تقدم ووعي الشعوب والأمم عبر كافة العصور ...

 بقلم المحامي : إيهاب ابراهيم -   www.facebook.com/ihab.ibrahem.54

                      www.twitter.com/ihab_1975

                   e.mail:ihab_1975@hotmail.com
                                                             
                gmail:ihabibrahem1975@gmail.com        
 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق