بالنظر الى الطريقة التي تُدار بها عجلة #القضاء في بلدنا (وأصر على إطلاق مصطلح عجلة) كان لزاماً عليَّ أن أعنون هذه المقالة بمقولة الميكنسيان فمؤسسة القضاء في بلدنا تختلف عن الكثير من مؤسسات القضاء في أغلب دول العالم المتحضر لا بل حتى النامية ..
إن فكرة تشكيل وتأسيس بنية هيكلية لمؤسسة القضاء قديم وله جذور ضاربة في التاريخ القديم لكن شكله الحديث ظهر مع إنطلاق مفهوم الدولة الحديثة بما تحمله من أعباء ومهام اقتصادية اجتماعية خدماتية وسياسية بالمعنى الواسع للكلمة ومن جملة هذه الخدمات او الأهداف هي صون العدالة وحماية الحقوق العامة والشخصية للأفراد على الحد السواء .
لذلك إنطلقت فكرة تأسيس وإنشاء دور القضاء في معظم دول وبلدان العالم على إختلاف الشكل السياسي للحكم .. وكانت الغاية الأولى لحماية دور القضاء وتفعيلها وجعل تأثيرها ذات بعد قانوني وإنساني وأخلاقي هو تجنيبها عن كافة التجاذبات السياسية والتقلبات المزاجية التي تجري في أروقة وإدارات الحكم ومنطق الحكومات وأهدافها الإستراتيجية القصيرة او البعيدة المدى والمتغيرة بحسب المصالح لذلك كان يتوجب أن يتم تحييد القضاء بشكل كامل ودائم عمّا يجري في البلاد فإستقلال القضاء هو مبدأ عقلاني ومنطقي قبل أن يكون تقنين وتشريع يُخط في دساتير الأمم ووجدان الشعوب وتراثها ..
وبنظرة سريعة على معظم تشريعات الدول المعاصرة ومنها بلدنا يستوقفنا مبدأ إستقلالية السُلطة القضائية وتحييدها عن السُلطتين الأُخرتين (التشريعية والتنفيذية) من منطلق أن القضاء هو سُلطة هدفها الأول والأخر هو حماية الحق والعدل وبغض النظر عن صاحب هذا الحق وميوله السياسية ومعتقداته الأيديولوجية الفكرية ..
وهذا ما أكده المبدأ التالي في #الدستور السوري بنص المادة \131\ (السُلطة القضائية مستقلة ويضمن رئيس الجمهورية هذا الإستقلال ويعاونه في ذلك مجلس القضاء الأعلى)..
وإنطلاقاً من هذا المبدأ إستلزم الأمر أن يتبع الجسم القضائي بقضاته ورجالاته الى مجلس القضاء الأعلى والذي يتمتع بإستقلالية تامة عن السُلطة التنفيذية في معظم الدول المتمدنة (على خلاف ما يجري عندنا) وبالتالي فالقضاة يعتبرون وبحكم القانون مستقلين في عملهم القضائي لا سلطان عليهم سوى القانون وضميرهم وهذا مكرس بنص المادة \133\ من الدستور (1-القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون -2-شرف القضاة وضميرهم وتجردهم ضمان لحقوق الناس وحرياتهم).
لكن على من تلقي مزاميرك يا #داؤود ..؟!
إن أول خرق لمبدأ فصل السُلطات واستقلال السُلطة القضائية نجده في التبعية الوظيفية والإدارية للقضاة والجسم القضائي الى وزير العدل (العضو في السُلطة التنفيذية) وهذا أول خرق كبير وفاضح والذي يقوض مبدأ استقلال القضاء ويجعله حبراً على ورق .. أما الخرق الثاني فهو في هيكلية تشكيل مجلس القضاء الأعلى وذلك بحسب قانون السُلطة القضائية الصادر بالمرسوم رقم \98\ لعام 1961 وتعديلاته وتحديداً بالمادة \65\ والتي تنص (يؤلف مجلس القضاء الأعلى على النحو التالي :رئيس الجمهورية ينوب عنه وزير العدل -رئيساً-رئيس محكمة النقض -عضو-النائبان الأقدمان لرئيس محكمة النقض -عضوان-معاون وزير العدل -عضو-النائب العام -عضو-رئيس إدارة التفتيش القضائي -عضو)..
إن نظرة سريعة على قانون السُلطة القضائية يعطينا فكرة شديدة الوضوح لا لبس فيها ولا غموض عن إنتهاك المبادىء الدستورية التي أرست مبدأ استقلال القضاء فمجلس القضاء الأعلى (برأسة وزير العدل) بتشكيلته ورأسته وتبعية الجسم القضائي له وهو بهذه الهيكلية فيه من عدم الحياد والإستقلال الشيء الكثير وقد كان من الأبدى أن يرأس مجلس القضاء قاضٍ مستشار بمرتبة وزير (كرئيس محكمة النقض مثلاً..) حتى لا يتبع في تراتبيته وتسلسله الى الحكومة أي السُلطة التنفيذية ممثلة بوزير العدل بل كان الأجدى أن يتبع الى البرلمان صاحب السُلطة في الرقابة الشعبية على سير أعمال الدولة ومرافقها ..
أيضاً وبالنظر الى المادة \8\ من ذات القانون والتي تنص على الأتي (تتولى إدارة التشريع - طبعاً التابعة لوزارة العدل أيضاً - أ - تحضير مشروعات القوانين والأنظمة والبلاغات القضائية) بما فيه من تعدي على السُلطة التشريعية صاحبة الولاية في إصدار التشريعات والقوانين كافة فإدارة التشريع بتبعيتها الوظيفية والإدارية لوزارة العدل ووزيرها تهيّء الظروف والأسباب للوزير لإصدار البلاغات والتعاميم التي تعرقل سير القضاء وتكبّل القضاة في عملهم القضائي والقانوني مع أن ذات المرسوم كان واضحاً في المادة \2\ بنصها (يمارس وزير العدل السُلطات المتعلقة بوزارته وهو المرجع الأعلى في الشؤون التوجيهية وفي الإشراف على الأعمال ومراقبة تنفيذها ضمن أحكام القوانين والأنظمة النافذة) ...
والتي أعطت للوزير سلطة الإشراف والتوجيه الإداري (فقط) لكن تناقض المرسوم بمنطوق مواده وتعابيره أعطى الوزارة والوزير وإدارة التشريع القضائي سُلطة تحضير مشاريع قوانين وبلاغات وتعاميم وأوامر إدارية لها مضمون وتأثير قانوني وقضائي أدت الى إفراغ القوانين الصادرة عن السُلطة الحقيقية (البرلمان) في البلاد من محتواها وعطلتها .
لطالما كانت تلك الخروقات المتمثلة بقانون السُلطة القضائية والذي شكّل سلاح وزير العدل ووزارته سيفاً مسلطاً على رقاب القضاة فقد أدى هذا الوضع المشوه الى تحويل قضاتنا الى مجرد موظفين عند مزاجية هذا الوزير او ذاك في تعاقبهم على إدارة وزارة العدل يسعون الى تنفيذ أوامره ويتجنبون نواهيه لنصبح وكأننا في إدارة عسكرية التفكير والرؤية عمادها وقوامها التنفيذ الأعمى وإطاعة الأوامر ..
إن تدخلات السُلطة التنفيذية ممثلة بوزارة #العدل في الشؤون القضائية والعدلية لا حصر لها ..إن أول ما يصدفنا ويكبل عملنا القانوني .....(كمشتغلين في القانون) هو تلك الأوامر الخطية الكتابية التي تصدر عن وزارة العدل الى قضاة الحكم والنيابة والمساعدين العدليين وغيرهم ... تحت مسمى تعاميم وبلاغات وتوصيات لها صفة النفاذ بموجب قانون السُلطة القضائية السابق الذكر فهي خرق واضح وفاضح لمفهوم حياد واستقلال السُلطة القضائية بكافة أشكاله ومسمياته .
فمن المعلوم لكل مشتغل بالقانون أن التشريع وعملية وضع وسن القوانين هي وظيفة ومسؤولية السُلطة التشريعية عبر البرلمان وذلك بحكم قواعد الدستور ومهمة القضاء هو تطبيق العدالة وتحقيقها عبر الإحتكام لنصوص القوانين والتشريعات الصادرة عن السُلطة التشريعية صاحبة الولاية والإختصاص في هذا الأمر ..
لكن أن تقوم وزارة العدل عبر وزيرها (وبغض النظر عن شخصه) بتشريع وإقامة منظومة من الأوامر والنواهي الموجهة الى القضاء للعمل بها فذلك إعتداء سافر على عمل السُلطة التشريعية وإنتهاك لسيادتها واستقلال عملها لا بد من الوقوف والتصدي بحزم له من جميع العاملين في الحقل القضائي والقانوني من قضاة ومحامين وغيرهم ...
إن تلك #البلاغات #والتعاميم (المواليد الخُدّج) التي تصدر عن وزارة العدل تعمل بمنحيين وإتجاهين سلبيين في آن معاً : فمن جهة هي كما قلنا تعدٍ صارخ على سُلطة مخولة بالتشريع لا بل إنتزاع وإغتصاب حق التشريع منها وسلبها صلاحياتها عبر تعطيل القوانين والتشريعات النافذة والمقوننة والتي حازت على تصويت الأغلبية لإقرارها .. فتصبح تلك القوانين والمراسيم فاقدة للنكهة والفاعلية والتأثير عبر إفراغها من محتواها ومضمونها الذي قصده المشرع ..
لأن تكرار تطبيق الخطأ والإستمرار بإستعماله سيحوله الى قاعدة ثابتة بحكم العادة والطبيعة البشرية .
ومن جهة أخرى ستحوّل تلك البلاغات والتعاميم السادة القضاة الى مجرد موظفين إداريين تابعين لسُلطة الوزير التنفيذي وستوؤد دورهم الإستقلالي القضائي والفقهي وستحصر جُلّ اهتمامهم وأعبائهم بتطبيق تلك الأوامر والبلاغات بالرغم من مخالفتها القانونية والدستورية الواضحة ومع مرور الوقت سيتم تحجيم الدور الريادي المفترض أن تلعبه مؤسسة القضاء في بناء الوعي الإجتماعي والفقهي والقانوني في البلاد ...!!
لأن القضاء واستقلاليته هو عماد البلاد وتقاس درجة تقدم وتحضر أي بلد ما بمدى استقلالية قضاءه ومدى مساهمته وفاعليته في نشر الوعي القانوني لتحقيق تقدم البلاد والشعوب عبر بث الثقة والطمأنينة في نفوس العامة بأن تلك المؤسسة هي الصرح الوحيد والملجأ الأخير لكل صاحب حق ومظلوم .. ومقهور ..
إن عملية الإصلاح القضائي برمتها يجب أن تبدأ إنطلاقاً من تفعيل استقلال القضاء حقيقة وواقعاً وذلك عبر تعديل وتحديث كافة القوانين المتعلقة بالسُلطة القضائية والتي تخالف مبدأ فصل السُلطات وذلك عبر تبعية الجسم القضائي لمجلس قضاء أعلى يتمتع هو الأخر باستقلالية تبتعد قدر الإمكان عن عبث السُلطة التنفيذية ومزاجيتها ومنطقها الإستنسابي وتحكمها في شؤونه وقوانينه ..
فلا يكفي وضع نص كنص المادة \67\ من قانون السُلطة القضائية بنصه: (يمارس مجلس القضاء الأعلى الإختصاصات التالية: ... ج - الإشراف على استقلال القضاء ..؟؟ ) فهو من الناحية النظرية قد يشعرنا بالفخر والإعتزاز لكنه من الناحية العملية التطبيقية -والبراغماتية - يؤدي الى الإحباط واليأس لأن تتبيع الجسم القضائي وإيكال مهمة الإشراف عليه الى سُلطة أعلى منه هي غير مستقلة اصلاً عن السُلطة التنفيذية (لأن فاقد الشيء لا يعطيه) هو لزوم مالا يلزم والتفاف عن المبدأ الأساسي والذي هو استقلال القضاء عن السُلطة التنفيذية ذات المرجعية المزاجية المتقلبة ..
فيا وزارة العدل ويا وزير العدل .. كفوا عن العبث بمؤسسة القضاء وإرفعوا أيديكم عنها فهي ليست عجلة حتى تُدار .!! وأنتم لستم الميكانسيان المخول بإصلاحها .. والى أن يتم تعديل قانون السُلطة القضائية بشكل عصري يتناسب مع ما هو معمول به في التشريعات الحديثة للدول المتمدنة وبما يتلائم مع السُمعة والمكانة التي يتوجب أن تكون عليها مؤسسة القضاء ..
والى ذلك الوقت نتمنى أن لا يصدر أي تعميم او بلاغ ذو مضمون قانوني وتشريعي (بإستثناء البلاغات ذات الطابع الإداري والتسلسل والوظيفي) يخالف ويعرقل سير القوانين والتشريعات الواجبة الإتباع والتطبيق (.. وحتى لا ينقلب مبدأ فصل السُلطة الى صحن سَلَطة..) والى ذلك الوقت والذي أرجو أن لا يكون ببعيد نتمنى على قضاتنا وجهازنا القضائي وضع العجلة المناسبة على السكة المناسبة ....
بقلم المحامي : إيهاب ابراهيم - www.facebook.com/ihab.ibrahem.54
www.twitter.com/ihab_1975
e.mail:ihab_1975@hotmail.com
gmail:ihabibrahem1975@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق