أستيقظ ذات صباح منهكاً خائر القوى أحس بدوار شديد يعصف في قعر رأسه يحاول أن يخرج من جدران جمجمته .. وقف أمام المرآة وأخذ يتأمل ملامح وجهه .. لقد صعق من هول ما رأه لا يمكن أن تكون هذه الملامح لرجل طبيعي لوهلة أحس بأن هذه الملامح ليست له وإنما لرجل أخر إنها لا تشبهه لا من قريب أو بعيد إنها ملامح رجل أضاع ذاته وروحه وأحلامه ومستقبله .
أخذ نفساً عميقاً وراح يستعرض شريط حياته السابق ليحاول أن يبحث عن طرف خيط أو ثغرة تقوده لمعرفة أسباب وصوله لهذه النتيجة المفجعة .. لقد لاحت له مرحلة الطفولة في البداية كان وقتها طفلاً بريئاً مثل بقية أطفال الحي يحب اللعب والمرح مع أنه في الكثير من الأحيان كان يفضل العزلة والأنطواء وحيداً .. كان يحب أن يسرح بخياله في الأفق البعيد ويحاول أن يتوقع كيف ستكون حياته في الغد البعيد .. لقد أستمرت معه هذه الحالة حتى فترة المراهقة .
أصبح في فترة المراهقة أكثر قلقاً مع انه لم يكن يحمل أعباء ومسؤليات عائلية او إجتماعية .. أصبح ذهنه يعمل كثيراً كان يهتم لكل شيء حتى لو بدى تافهاً للكثيرين من أقرانه كان يراعي حتى في تصرفاته ما هي نظرة الأخرين له وهل سيحكمون عليه سلباً أو إيجاباً ..
كان هنالك صراع حقيقي يدور داخل رأسه بين ما يحب ويريد وبين ما يعتقده من نظرة الأخرين له وحكمهم على أفعاله وتصرفاته وهذا ما شكّل له هاجساً وأرق مضجعه في الكثير من الليالي السوداء .
كان يعشق الحرية كأن يتصرف على هواه ويقول ما يريد ويعبر عما يجول في خاطره من أفكار شيطانية ساعة يشاء لكنه كان يقع فريسة التربية والمجتمع والعادات والتربية الدينية الذين كانوا يحدوا من رغبته في أن يكون هو ذاته كما يحب ويهوى ..
عندما أصبح في مرحلة التعليم الجامعي وأخذ يشعر بفحولته بشكل واضح كان يعتقد وقتها بأن الرجولة هي عبارة عن صوت أجش ولحية وشارب تزين له وجهه وتطفي عليه صبغة رجولية بكل المقاييس ..
لقد صادف العديد من الفتيات في مرحلة تعليمه الجامعي وهنا بدأت أزماته تتوضح بشكل أكبر كانت رغباته الدفينة تريد أن تستأثر بكل الفتيات الجميلات في تلك الجامعة وهذا إنعكاس لإعتقاده بكمال رجولته وفحولته فهو كان جميل الطلة ممشوق القوام تميل بشرته الى السمار البرونزي وعينين خضراوتين وهذا ما أعطاه أعتقاد بأن أي فتاة سوف تفتتن به من أول نظرة ساحرة من عينيه الجميلتين وهذا بدوره جعل منه شخص متحفظ في علاقاته فهو لم يقدم على التقرب او محاولة الكلام مع أي فتاة رغم إعجابه بالكثير منهم .
لقد كانت الأنا النرجسية عنده تمنعه فهو يريد من الأخريات أن يقمن هن بالتقرب منه والتودد إليه إضافة الى الخجل القديم الذي لم يستطع التخلص منه من رواسب الطفولة والتربية القمعية .
وهكذا بدأت السنوات تتقافز أمام عينيه الواحدة تلو الأخرى وهو متشبث بأراءه ومعتقداته الشوفينية لقد بنى لنفسه شرنقة أو برجاً عاجياً .. كان يعتقد على الدوام بأن القادم سيكون أفضل وبأن الأيام والسنين لابد وأن تكون قد خبأت له مفاجئات كبيرة ومن العيار الثقيل فهو ولأسبابه الخاصة كان يرى بأن الرب يخصه بمكانة مميزة عن بقية الناس المحيطين به ولذلك فهو لن يخذله ولا بد بأن رعاية رب السماء ستجود عليه بأمور جميلة ..
تخرج صاحبنا من جامعته وحاول جاهداً البحث عن عمل لائق يرضي طموحه وغروره فهو حاصل على شهادة في العلوم السياسية وكان يرى في نفسه عضواً في السلك الدبلوماسي لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن .. كما يقال لقد حطت رحاله في إحدى مدارس البلدة فقد تم تعينه كمدرس لمادة التربية القومية ..
لقد أبدى إستياءه في البداية لكن بسبب الظروف المادية التي كان يعاني منها إضطر الى قبول تلك الوظيفة التي لا يرى نفسه فيها فهو بمقدراته كان يرى نفسه مستقبلاً كسفير في السلك الدبلوماسي لكن بالنهاية رضي بالأمر الواقع مع إحساسه بأن الأيام القادمة ما زالت تحمل له الكثير .
باشر عمله كمدرس في تلك المدرسة كانت مدرسة للبنات وقد شاءت الأقدار أن يقوم بتدريس طالبات الشهادة الثانوية .. عندما رأى تلك الفتاة الصهباء الممشوقة القد أحس بأن سهماً قد أخترق قلبه لقد أثرته تلك الفتاة بجمالها وسحرها كانت من النوع المغناج ومع ذلك كانت بسيطة ومتواضعة ..
أيضاً كانت هنالك إحدى زميلاته المدرّسات كانت أنسة اللغة الفرنسية لقد أعجبت بصاحبنا منذ قدومه كانت في الثلاثين من عمرها أنيقة وجذابة ومهذبة وعندها جرأة واضحة في ملامحها ونظراتها .. كانت تسعى دائماً الى التقرب من صديقنا في كل مناسبة في المدرسة في الأجتماعات وفي الرحلات المدرسية . لقد أحس هو بهذا الأهتمام والتقرب كان يعجبه ذلك فهو يرضي غروره ونرجسيته ومع كل هذا لم يقدم على قول شيء مع أن زميلته المعلمة كانت تعجبه في أعماق فكره فقد كان يتأملها أحياناً وهي تصعد الدرج أو تمشي في بهو المدرسة ..
كان هنالك صراع كبير يجول في رأسه بين عشقه لتلك الطالبة وبين إعجابه بزميلته المعلمة والتي يعلم بأنها تعشقه ..
ماذا عليه أن يفعل هل يتورط بعلاقة مع طالبة بعمر بناته فهو بتلك الفترة كان بعمر الأربعين وهي بالسابعة عشرة مع أن الفتاة كانت متعلقة به وقد عبرت لزميلاتها أكثر من مرة بأنه يعجبها ولا مانع لديها من أن تكون من نصيبه .
كان الصراع على أشده في رأس صديقنا فهو لم يعتد على مواجهة المواقف الصعبة أو إتخاذ القرارات المصيرية أحس للحظة بأنه ضائع ومشوش ولا يمتلك الجرأة على الأختيار تلك الطالبة هي عشقه لكنه لن يمتلك الجرأة على مواجهة العالم والمجتمع والعائلة وهذه من مخلفات الرواسب الطفولية القديمة والتي مازالت تلاحقه حتى في أحلامه .
أما زميلته فقد أحس بأعماقه بأنها تستطيع سبر أغواره وتكشف خفاياه وبالتالي فهي ستشكل خطراً حقيقياً على ذاته وشخصيته المضطربة لذلك سيكون الأقتراب منها أمراً محفوفاً بالمخاطر .. كان صوت ما يناديه من أعماقه أنت لا تستحق الإثنتين أو ربما هو سمعه بطريقته الخاصة كان الصوت يقول له أنت تستحق أفضل من ذلك بكثير لذلك عليك أن تبتعد وتدير ظهرك . أنت لم تخلق لمثل ذلك أو تلك أنت تستحق دائماً الأفضل لا تستعجل في قراراتك .
تخرجت تلك الطالبة وإنتقلت الى الجامعة أما صديقتنا المعلمة فقد إنتقلت الى مدرسة أخرى بعد الصراع النفسي الذي عانت منه بسبب صاحبنا هذا .. ومضت الأيام والسنين على صاحبنا وهو يعيش بروتين يومي مقرف ومميت فقد الأحساس بطعم الحياة شيئاً فشيئاً أصبح يتأخر عن دوامه ويهمل دروسه وأحياناً كثيرة ينسى أغراضة الخاصة كهاتفه النقال أو محفظة نقوده
أصبح يشعر بأن عناية السماء لم تعد تعيره إهتماماً مثل السابق ..
كان رجلاً قارب الخمسين من عمره بلا أمل .. بلا حلم .. بلا أمرأة .. بلا حب .. لقد أيقن بأن روحه ستفارقه قبل أن تبتسم له الحياة وقد أصبح كهلاً لقد أدمن الكحول وصار يتردد على الحانات ويسرف في الشراب عله ينسى وحدته الأليمة كان يسهر حتى ساعات الفجر الأولى وهو يعاقر الخمرة ليسكت ذلك الصوت الذي يقض مضجعه أحياناً ويلومه على الفرص التي أضاعها وبعدها يعود الى منزله وحيداً ويلقي بجثته على أقرب أريكة يجدها وينام كرجل ميت .
أوشك شريط حياته على النهاية كان هنالك مشهد أخير قطعه صوت بائع جوال كان ينادي على بضاعته .. عندها أستيقظ صاحبنا من أحلام يقظته وعاد ينظر الى بقايا ملامح وجهه وفجأة أستجمع قواه وأحس بجرأة غريبة تسري في عروقه فنظر الى عينيه مباشرة عن طريق المرآة مخاطباً نفسه قائلاً : أنت رجل بلا روح وأمل بلا وطن وهوية .. أنت فاشل بكل المقاييس أنت لم تكن رجلاً حقيقياً في كل مسيرة حياتك فالرجولة لم تكن يوماً هي الفحولة إن الرجولة هي الجرأة هي الإقدام هي أن تكون صاحب موقف وكلمة ..أن تعيش حياتك كما ترغبها وتريدها أن تعبر عن ذاتك .. عن حبك دون أن تخشى لومة لائم .. الرجولة هي أن تكون أنت لا أن تكون هم ..
قال هذه الكلمات وإنفجر بالبكاء .. ثم دخل الى المطبخ وأخرج زجاجة كحول وكأس .. صب كأساً لنفسه وأخذ يرتشف منه ومع كل رشفة كان يحس بأنه .. بقايا رجل محطم مهمش ... وحيد ولأول مرة أحس بأنه يريد أن ينتظر شيئاً يرغب به .. كان يريد أن يستقبل الموت فبموته سيحس بأكتمال رجولته الضائعة .. أغمض عينيه وأستسلم للنهاية بأبتسامة ساخرة..!!!
بقلم المحامي : إيهاب ابراهيم - www.facebook.com/ihab.ibrahem.54
www.twitter.com/ihab_1975
e.mail:ihab_1975@hotmail.com
gmail:ihabibrahem1975@gmail.com
https://plus.google.com/u/0/101994558326112312008/posts
https://plus.google.com/u/0/b/108194967624983296938/108194967624983296938/posts